×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

من وَهَج السعي إلى سكينة الوعي

من وَهَج السعي إلى سكينة الوعي
بقلم / سمحه العرياني 
لم يكن النجاح يومًا يقاس بالهدوء، بل بضجيج المواعيد التي تسبقنا، وهواتف لا تصمت، وقهوة تُشرب على عجل بين محطة وأخرى. كنا نعتقد أن الانشغال هو علامة النضج، وأن من لا يجد وقتًا للراحة لا بدّ أنه يعيش ذروة إنجازه. كنا نصفّق لمن يركض أكثر، لا لمن يعرف كيف يتوقف.

في تلك المرحلة، كان الحديث عن «التوازن» يُعدّ رفاهية. من يختار الهدوء كان يُنظر إليه كأنه بلا طموح. كان المجتمع يحتفي بمن يسهر أمام الشاشات حتى الفجر أكثر ممن ينام مبكرًا ويعيش يومه بسلام. كأننا كنا نخشى أن يفوتنا شيء، ففضّلنا الإرهاق على الفراغ، والإنجاز على الراحة.

لكن السنوات الأخيرة غيّرت وعينا. صار النجاح يبدو مختلفًا… أهدأ، وأقرب إلى الداخل. لم يعد في عيون الساهرين، بل في وجوه من ينامون بطمأنينة. لم يعد في ازدحام التقويم، بل في المساحات الفارغة التي نحجزها لأنفسنا.

صرنا ننبهر بمن يبدأ صباحه بخطواتٍ هادئة نحو الضوء، لا نحو المكتب؛ بمن يحتسي قهوته ببطء كاحتفال، لا كهروب. الناجح اليوم هو من يختار ذاته، من لا يترك انشغالاته تلتهم حياته، من يفهم أن التوازن لا يُمنَح، بل يُنتزع بحكمة ووعي.

ومع تغيّر القيم تغيّرت الحياة ذاتها. لم تعد صورة النجاح حكرًا على مجال واحد. توسّعت دوائر العمل، وتقدمت المرأة بثبات في الطب والتعليم والإعلام والتقنية وريادة الأعمال. تساوى الجميع في الطموح… وفي التعب. أصبحت المعركة اليوم ليست في الوصول إلى الفرص، بل في عدم فقدان أنفسنا ونحن نركض نحوها.

لكن إدراك هذا التحول ليس سهلاً، لأن النجاح، كما ترسمه المجتمعات، مرتبط بالهوية والانتماء. نحن نكبر على فكرة أن «القيمة» تُقاس بما ننجزه، لا بما نحسّه. حين نهدأ نشعر بالذنب. نخشى أن يُفسَّر هدوؤنا ككسل، وأن يُنظر إلى اتزاننا كتنازل. وهكذا يتأرجح الناس بين صوت داخلي يطلب الراحة، وصوت خارجي يطالب بالمزيد.

كثيرون ما زالوا يركضون، لا حبًّا بالسرعة، بل لأن التوقف يكلّفهم أكثر مما يحتملون. السكينة جميلة، لكنها تحتاج إلى مساحة آمنة. ولهذا لا يمكن تعريف النجاح بمنظورٍ واحد. النجاح للبعض أن يستمر دون أن ينهار… ولآخرين أن يتوقف قبل أن يُرهق نفسه.

الأكثر إيلامًا أن التعب لم يعد ظاهرًا في الوجوه، بل ساكنًا في الداخل. كثير من القصص تبدأ بجملة واحدة: «أنا متعب رغم أني أنجزت كل شيء.» إنه تعب المعنى… حين يتحول الحلم إلى قائمة مهام، والطموح إلى ضغط مستمر، يفقد الإنجاز قيمته الأولى. عندها يصبح النجاح الحقيقي أن تستعيد صلتك بنفسك، أن تتذكّر لماذا بدأت، ولمن تفعل كل هذا أصلاً.

لذلك لم يعد السؤال: كيف نبطئ؟ بل متى؟ ومتى نسمح لأنفسنا أن نركض؟ النجاح ليس في وتيرة السرعة أو البطء، بل في الوعي بتوقيتهما. أن نعمل بشغف دون أن نحترق، وأن نرتاح دون أن نشعر بالذنب. أن نعيش بإيقاع يخصّنا… لا يفرضه العالم علينا.

في النهاية، نحاول جميعًا أن نصل إلى لحظة توازن صادقة؛ لا بطء يُبقينا خارج الحياة، ولا سباق يُبعدنا عن أنفسنا. نحاول أن نجد الإيقاع الذي يجعلنا نعيش… لا ننجو فقط. ربما النجاح اليوم هو أن نكون صادقين مع أنفسنا، أن نعرف ما يكفينا، وما حان الوقت لتركه، وأن نحيا حياة لا تُشبه أحدًا… لكنها تُشبهنا تمامًا.
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر