×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

حين يتكلم الصمت وتبكي الذاكرة

حين يتكلم الصمت وتبكي الذاكرة
بقلم ✍️ : عامر آل عامر 
البكاء على الأطلال هو وقوف الروح عند تخوم الذاكرة، حين تتقاطع أنفاس الماضي مع صمت الحاضر، فيستحيل المكان كتابًا مفتوحًا على صفحات الرمل، وتصبح الحجارة كلماتٍ نُقشت بالوجد، وكل نسمة ريح تقلب صفحة جديدة من رواية غائبة أبطالها رحلوا، لكن ملامحهم ما زالت محفورة في تضاريس المكان.
هو لحظة يذوب فيها الزمن، فيرى الشاعر ظلّ أحبته يمر بين الخيام، ويسمع ضحكاتهم تتناثر مع هبوب الريح، حتى ليظن أن الصحراء تحفظ سرّهم في حناياها، وأن الرمال تهمس بأسمائهم كلما هبت عليها نسائم الفجر.
هناك، يصبح الغياب أكثر حضورًا من الوجود، ويغدو الصمت أبلغ من أي كلام، والدموع لغة صافية لا تحتاج إلى ترجمة.
نشأ هذا الطقس الشعري في حياة العرب الرحّل، حيث كان الرحيل قَدَرًا مفروضًا، والأرض مرآةً لمشاعرهم، فكانت الأطلال مسرحًا للوفاء، ومرثيةً للحظات لا تُستعاد.
كانوا يعودون إلى الديار بعد طول غياب، فيجدونها خاوية إلا من أثر خيمة أو رماد نار، فتتفجر فيهم شلالات الحنين، فينسجون من رمالها قصائد خالدة، وكأن الشعر وحده هو من يمنح تلك الأمكنة حياة جديدة لا تفنى.
ولم يكن امرؤ القيس حين قال: "قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ" مجرد نادب لأثرٍ اندثر، بل كان يعيد تشكيل الزمن على إيقاع الحنين، ويمد جسورًا بين ما كان وما لن يعود، ليجعل من الذكرى حياة ثانية لا تموت، ومن الأطلال فضاءً يعج بالأصوات والصور التي لا تراها العين لكنها تسكن القلب.
وفي كل بيت شعري من هذا الفن، يتجلى المزج بين الحقيقة والخيال، بين الحس والوجدان، حيث تتحول الأرض إلى شاهد حي على العاطفة، وتصبح الريح مرسالًا بين الحاضر والماضي، وتنصهر المسافة بين اللحظة الراهنة والزمن البعيد في بوتقة الشعور الإنساني الخالص، وكأن القصيدة بوابة سرية إلى الماضي لا يملك مفتاحها إلا من جرب لوعة الفقد.
لقد حفظت الأطلال أسرار العشاق ورحلات القوافل وأهازيج السمر حول النيران، وشهدت على لحظات الفرح والحزن، حتى باتت مزيجًا من التاريخ والعاطفة، وذاكرة جماعية لا يطمسها النسيان.
وكلما وقف شاعر أو عاشق أمامها، أضاف إلى سجلها صفحة جديدة من الحنين، ليصبح البكاء على الأطلال سلسلة ممتدة من الأرواح التي تتعانق عبر الزمن.
في البكاء على الأطلال يتجلّى البعد الإنساني العابر للعصور؛ فالمكان ليس إلا ذريعة للبوح، والحنين ليس إلا مقاومة صامتة لانطفاء الجمال، ومواجهة صادقة مع هشاشة الوجود.
وحتى في زمن الحداثة، يبقى هذا الرمز شاهدًا على أن القلب البشري لا ينسى، وأن بعض الفقد لا يُشفى منه الزمن، لأن هناك أماكن لا نغادرها مهما ابتعدنا، وأطلالًا تسكننا قبل أن نسكنها، وكأننا حين نبكيها نروي حكايتنا نحن، لا حكايتها هي، فنكتشف أننا في النهاية أطلال تمشي على الأرض تبحث عن من يبكيها.
ولعل أجمل ما في هذا المشهد أن الأطلال، رغم صمتها، تمنحنا لغة لا تُترجم، لغة يشعر بها القلب قبل أن تدركها العين، وكأنها تكتبنا نحن قبل أن نكتبها، فتغدو شاهدة على أن الذاكرة أقوى من الريح، وأن الحنين هو أجمل وأصدق ما تبقى لنا حين يبتلع الزمن كل شيء.
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر