×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

حين بكى الألم... ورحل من كان يُداويه

حين بكى الألم... ورحل من كان يُداويه
بقلم : عامر آل عامر 
في لحظةٍ خفَتَ فيها صوت الكلمات، ووجِمَ فيها حتى الحرف، رحل الدكتور بهي الدين المنزلاوي…
لكن هل يرحل حقًا مَن كان للعابرين طوق نجاة؟ هل يُطوى أثر الطبيب الذي لم يعالج الأجساد وحسب، بل أعاد ترميم الأرواح الممزقة بخيوط الحنان؟
لم يكن اسمه في الوسط الطبي مجرد توقيع أسفل وصفة، بل كان ذاكرة كاملة محفورة في قلوب من عرفوه.
خمسة وثلاثون عامًا من الطب النفسي، لم تكن مهنة يؤديها كما يؤدي الموظفون أعمالهم، بل كانت رسالة، عاشها بحسّه، وأخلص لها بكل ما أوتي من عقلٍ وبصيرة.
بهي الدين المنزلاوي لم يكن طبيبًا عاديًا، بل كان ذلك النوع النادر من الأطباء الذين يستقبلونك بقلبٍ مفتوح قبل أن يفتحوا الملف، ويتحدثون إليك كما لو أنهم يعرفون جيدًا ما لم تقله، ويقرأون صمتك قبل أن تسرد معاناتك.
في عيادته، لم تكن تُجرى فقط الجلسات… بل كان يُعاد ترتيب الداخل.
كان يرى في كل مريض إنسانًا تاه في زحام الضوضاء النفسية، ويؤمن أن العودة لا تكون إلا بالاحتواء، لا بالدواء وحده.
كان يردّد لمن حوله أن "الجرح النفسي لا يُرى… لكنه يصرخ كل يوم داخل صاحبه"، ولهذا، كان يصغي لذلك الصراخ كما يصغي العارف إلى صلاةٍ سرية لا يسمعها سواه.
عمل في مستشفيات مصر والسعودية، وترك في كل زاوية بصمة، وفي كل ممرّ حكاية، وفي قلوب مرضاه دعاءً لا ينضب.
لم يكن يكتفي بالتشخيص، بل كان يسير مع مريضه في رحلة الشفاء كرفيق، لا كمرشد متعالٍ.
وكان يرى أن المريض النفسي لا يحتاج فقط إلى العلاج، بل إلى من يصدّق وجعه، ويحترم وجعه، ولا يُعامله كرقمٍ في إحصائية.
بهي الدين كان مختلفًا، لأنه لم يطمح إلى الشهرة، بل إلى الأثر.
وكان يؤمن أن أعظم الإنجازات هي تلك التي لا تُكتب في الصحف، بل في وجدان من أنقذتهم ذات يوم من السقوط.
اليوم، وهو يُوارى الثرى، يبكيه كل من عرفه، لا بكاء فقدٍ عادي، بل بكاء مَن خسر ملاذًا، وسندًا، وكتفًا معنويًا لا يُعوّض.
إن غاب الطبيب، لم تغب الروح.
وإن خفت الصوت، لم يخفت الصدى.
سلامٌ على روحك الطاهرة، يا من كنت أنبل من عالج، وأصدق من أنصت، وأرحم من فهم.
نم قريرًا… فهناك من لا يزال يعيش ببعض مما زرعت.
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر