×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

القيم ليست لها عمر محدد

القيم ليست لها عمر محدد
بقلم / موضي عودة العمراني 

في زمن تتسارع فيه الخطوات وتتبدل فيه المعايير، يبقى هناك شيء واحد لا تهزّه الأيام ولا تُغيّره العقود: القيم. إنها الثابت الذي يقف على أرض صلبة بينما تتقلب من حوله فصول الحياة. القيم ليست موضةً تُستبدل، ولا فكرةً تُستحدث، ولا قالبًا يمكن إعادة تشكيله كلما مرّ جيل. إنها جذرٌ ضارب في عمق الإنسان، يمدّه بالمعنى ويمنحه الاتجاه ويُثبّت أقدامه في عالم يعجّ بالضوضاء.

القيم… جوهر لا يشيخ

عندما نقول إن القيم ليس لها عمر محدد، فنحن لا نصف ثباتها فقط، بل نصف قدرتها على أن تكون حيّةً في الزمن كله. قد تتغير أشكال التواصل بين الناس، وقد تتبدل الأنماط الاجتماعية، لكن قيمة كالاحترام مثلًا لا تفقد ضرورتها، والصدق لا يصبح قديمًا، والعدل لا يفقد بريقه. القيم لا تُقاس بتاريخ إنتاج، بل بما تُنتجه في النفوس والمجتمعات من أثر عميق ومستدام.

علاقة الإنسان بالقيم عبر الزمن

منذ أن عرف الإنسان نفسه، كان يبحث عن مرشد يضيء له الطريق وسط المجهول. ومع تطور الحضارات، لم تكن القوة ولا الثراء هما ما حفظ ذكراها، بل القيم التي حملتها. الحضارة الإسلامية على سبيل المثال ارتكزت على قيم العدل والرحمة والصدق، وما زالت هذه القيم – رغم مرور مئات السنين – تلامس القلوب وتؤثر في البشر. وفي المقابل، اندثرت حضارات كثيرة لأنها قامت على الظلم أو التفاوت أو غياب المعايير الأخلاقية.

التغير لا يعني التخلّي

قد نعيش اليوم في عالم مختلف تمامًا عن الماضي:
هواتف ذكية، ذكاء اصطناعي، سرعة في كل شيء، تواصل بلا حدود… لكن رغم هذا كله، لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا قيم. فالمجتمع بلا قيم يشبه بيتًا بلا أساس، مهما كان شكله جميلًا، ينهار عند أول اهتزاز.
التغيّر أمر طبيعي، بل ضروري، لكن ما يجب أن يبقى ثابتًا هو المبدأ الذي يوجّه هذا التغيير. التطور الحقيقي هو الذي تسنده القيم وتضبط مساره، لا الذي يهدمها بحجة المعاصرة.

القيم تبني الإنسان… والإنسان يبني المجتمع

القيمة ليست كلمة تُقال، بل سلوك يُمارس. وهي تبدأ من الفرد ثم تمتد منه إلى الأسرة فالبيئة فالمدرسة فالمجتمع كله.
عندما يتعلم الطفل قيمة الاحترام، يصبح شابًا قادرًا على التفهم والحوار.
وعندما يتربى على الأمانة، يصبح مواطنًا يحرص على المال العام كما يحرص على ماله.
وعندما يدرك معنى الرحمة، ينعكس ذلك على كل علاقاته مع الآخرين.
وهكذا تُصبح القيم سلاسل نور تمتد من فرد إلى آخر حتى يتكون مجتمع متماسك، يثق بعضهم ببعض، ويؤمنون بأن الأخلاق ليست رفاهية بل ضرورة.

القيم لا تفنى… لكنها قد تُهمل

القيم لا تموت، لكنها تُصاب بالضعف عندما نتجاهلها. فهي تحتاج إلى من يُنعشها بالعمل، لا بالكلام. تحتاج إلى قدوة تُجسدها، أكثر مما تحتاج إلى نصوص تُسطّرها.
وعندما يغيب القدوة، أو تتراجع التربية، أو تتصدع الروابط الاجتماعية، تبدأ القيم بالتواري. لكنها لا تختفي تمامًا، لأن جذورها في الإنسان لا تُقتلع، بل تنتظر من يحييها من جديد.
وهذه مسؤولية الجميع: الأسر، المدارس، المؤسسات، الإعلام، وقبلهم جميعًا: الفرد.

القيم عبر الأجيال: لغة تفهمها البشرية كلها

على الرغم من اختلاف الثقافات واللغات، إلا أن القيم تبقى لغة مشتركة بين الناس. فالعدل مفهوم عالمي، والرحمة شعور إنساني، والصدق مطلب فطري. ولهذا فهي تنتقل من جيل إلى جيل، ومن مجتمع إلى آخر، دون أن تفقد معناها. قد تختلف طرق تطبيقها، لكن أساسها لا يتغير.
إن القيم تشبه النهر: قد تتغير ضفافه، لكنه يظل يجري بالماء نفسه الذي يمنح الحياة.

القيم في لحظات الاختبار

الجميع يتحدث عن القيم في الأوقات العادية، لكن اختبارها يأتي عندما تتعقد الأمور أو تتعارض مع المصالح. هنا تظهر المعادن الحقيقية. فالشجاعة تُقاس حين يلوذ الآخرون بالصمت، والوفاء يظهر عندما يغادر الجميع ويبقى المخلص وحده، والأمانة تُعرف عندما يكون الإنسان قادرًا على الخيانة لكنه يرفض.
وفي هذه اللحظات الفارقة يتأكد أن القيم ليست فكرة مثالية، بل قوة تُوجه الإنسان إلى الصواب مهما كان الطريق صعباً.

إن القيم ليست عابرًا من عابري الزمن، بل هي الزمن نفسه. هي الذاكرة التي تبقى حين تذهب الأشياء، وهي السلاح الذي نواجه به تقلبات الحياة. القيم لا تهرم، لأنها مرتبطة بروح الإنسان، والروح لا تشيخ.
وكلما تمسكنا بقيمنا، كلما صنعنا لأنفسنا مستقبلًا أكثر ثباتًا ومعنى. فالقيم ليست لها عمر محدد… لأنها خُلقت لتعيش بقدر ما يعيش الإنسان، بل لتبقى حتى بعد أن يرحل .
التعليقات