×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

التسامح… جمال لا تصنعه إلا الأرواح الكبيرة

التسامح… جمال لا تصنعه إلا الأرواح الكبيرة
بقلم : عامر آل عامر 
هناك لحظات في عمر البشرية تبدو وكأنها تنادي الإنسان ليعود إلى فطرته الأولى.
فطرةٍ وُلد بها نقية، لا تعرف لونًا ولا حدودًا ولا أسماءً صنعها الإنسان لتقسيم الكون.
ومن بين تلك النداءات يبرز صوت واحد يعلو فوق عَتَمَة الصخب.
صوت يقول: تسامح.
كأن الوجود نفسه يضع يده على كتف الإنسان ليذكّره بأنه خُلق ليعمّر، لا ليهدم.

التسامح ليس شعارًا ولا كلمة تطيب بها خواطر العابرين.
إنه حالة كونية، وارتقاء روحي، ولغة يفهمها القلب قبل الأذن.
هو تلك القدرة العجيبة على أن ترى الآخر كما هو، لا كما تريد أنت.
أن تفهم اختلافه باعتباره اتساعًا لجغرافيا الروح، لا تهديدًا لحدودك الضيقة.
أن تدرك أن البشر مثل طبقات الضوء.
كل لونٍ يجعل المشهد كاملًا، وكل اختلافٍ يمنح اللوحة عمقها.

عندما تتصافح الأيدي فوق خارطة العالم المضيئة من علٍ، كما في الصورة، يبدو الكون كطفلٍ صغير يشعر بالأمان.
طفلٍ تُطمئنه لمسات من يأتي من الجهات كلها.
كأن هذا الوجود الرحب ينتفس الصعداء حين يتذكر أهله أن الرحمة هي اللغة الأم للبشرية.
فما أوهن العالم حين يمتلئ بالضغينة.
وما أبهى المشهد حين تمتد يد لتلتقي بيدٍ أخرى، لا تسألها من أين جاءت، ولا ماذا تعتقد، بل تسألها شيئًا واحدًا فقط:
هل نكمل الطريق معًا؟

التسامح ليس ضعفًا كما يظن البعض.
إنه القوة التي تجعل الإنسان قادرًا على حمل قلبه دون أن ينكسر.
هو شجاعة الاعتراف بأن الحرب داخل القلب أخطر من كل الحروب خارجَه.
وأن الانتصار الحقيقي لا يتحقق حين نهزم الآخر، بل حين نهزم الغلَّ في صدورنا.
فمن يتسامح، لا يتنازل؛ بل يتحرر.
ومن يصفح، لا يهزم؛ بل ينتصر على أعبائه الداخلية.

وفي زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتضيق فيه الأرواح بغيرها، يعود التسامح ليكون آخر ملاذ للإنسانية.
ملاذًا يعيد ترتيب المفاهيم، ويعلّمنا أن العالم مهما اتسع فهو ضيق بلا محبة.
وأن اختلاف الأديان والأفكار والأعراق والأوطان لا ينبغي أن يُرى كحواجز، بل كجسورٍ لا يكتمل العبور إلا بها.
فالله حين خلق الاختلاف، لم يخلق معه العداوة.
بل ترك للإنسان أن يختار.
إما أن يجعل من الاختلاف معركة.
أو يجعل منه جسرًا للسلام.

التسامح هو أن نمنح الحياة فرصة لتكون أجمل.
أن نمنح الإنسان مساحة ليكون نفسه دون خوف.
أن نمنح قلوبنا الضوء الذي نُطفئه نحن بأنفسنا كلما ضاقت صدورنا.
وأن ندرك أن أجمل ما في الإنسان إنسانيته.
تلك الخامة العتيقة التي لا تشيب مهما اختلفت الألوان وتباعدت الاتجاهات.

وفي النهاية، سيبقى التسامح فناً لا يجيده إلا النبلاء.
سيبقى القوة الهادئة التي تحفظ للعالم توازنه.
وسيظل أعظم مبدأ تعيش به الأمم وتنهض به الحضارات.
فما ارتفع شعبٌ بالمكايدات.
وما سقط شعبٌ بالرحمة.
ولا ازدهرت حياة إلا حين آمن أهلها أن الإنسان — أيًّا كان — هو قيمة تستحق الاحترام، ويد تستحق أن تُصافَح.

إنه التسامح.
ذلك النهر الذي إذا تدفّق في أرواحنا، اغتسلت به الحياة كلها.
التعليقات