تفشّي وباء الدكتوراه الفخرية

لقد ابتُلي هذا العصر بوباءٍ جديد لا يُقاس بدرجات الحرارة ولا يُكتشف بالتحاليل المخبرية، بل يُعرف من رائحة الغرور ولون الجهل في العيون، اسمه: الدكتوراه الفخرية.
مرضٌ معدٍ ينتقل من جمعية إلى صالون، ومن صالون إلى منصة، ومن منصة إلى وعي المجتمع، حتى صار “الدكتور” يُمنح كما تُوزَّع بطاقات الخصم في المولات.
تسلّل المتسلقون إلى قممٍ لم يصعدوها، واحتلّوا مقاعد لم يتعبوا للوصول إليها، يلوّح أحدهم بلقب “دكتور” كمن يرفع رايةً على أرضٍ لم يحارب لأجلها.
وحين تسأله: ما تخصصك؟
يجيب بثقةٍ خرافية: “دكتوراه فخرية”!
فكأن الجهل عنده وسام، والتكريم ورقة مرور إلى عقول الناس!
تأمل المشهد: لا يفرّقون بين النظرية والمنظر، يحدّثونك عن التنمية، وعن الإبداع، وعن “الابتكار” وهم لا يعرفون كيف يكتبون جملة سليمة، ولا كيف يفتحون ملفًّا في جهازهم.
ومع ذلك يُستضافون في المنتديات، يُصفَّق لهم، ويُقدَّمون بـ “الدكتور/ة فلان/ة”!
ثم تكتشف أن شهادتهم صادرة من جهة لا تحمل من العلمية إلا ختمها، ولا من المصداقية إلا رقم هاتفٍ لا يجيب.
أيها السادة، لقد تحوّلت الفخرية من تقديرٍ للنبوغ إلى جسرٍ للنصب، ومن وسامٍ للعطاء إلى بطاقة تعريفٍ للمزيّفين.
صار الجهلاء يتبادلونها كالهدايا، ويتباهون بها كما يتباهى الأطفال بالألعاب النارية ليلة العيد.
لقد قيل قديمًا:
الجهل مصيبة، ولكن المصيبة الأعظم أن يتحدث الجاهل باسم العلم.
وها نحن نعيش هذا القول واقعًا؛ يقتحم الرويبضة المنصات، ويتصدرون المجالس، يفتون في الاقتصاد، ويُنظرون في السياسة، ويحلّلون النفس البشرية وهم أحوج الناس للعلاج.
وحين تُسائلهم، يرفع أحدهم حاجبيه مزهوًّا: “أنا دكتور/ة فخري!”
فيغدو الجهل علمًا، والتزييف كرامة، والانتحال تقديرًا.
هذه ليست مجرد ألقاب تُختطف، بل قيمٌ تُغتال.
فالعلم الذي بُني بالجهد والبحث والدموع، صار لعبة في أيدي من يشتري وجاهةً بشهادةٍ ورقية.
والأمة التي تُكرّم الجاهل وتُسكت العالم، لا تُصاب بالوباء... بل تصنعه.
على وزارتي التعليم والموارد البشرية أن تغلقا منافذ هذا الوباء، فسرقة اللقب ليست أقل جرمًا من سرقة المال العام، بل أخطر، لأنها تسرق ثقة المجتمع وتشوّه رمزية العلم.
وما لم نضع حدًّا لهذا العبث، فسيأتي يومٌ يُلقَّب فيه الكومبارس بـ“أستاذٍ مفكر”، والمحتال بـ“باحثٍ أكاديمي”، والمتملق بـ“رائدٍ إنساني”.
اللقب لا يصنع العالِم، كما أن الطلاء لا يصنع الذهب.
فالعظمة لا تُمنح… العظمة تُنتج.
والشهادة لا تُشترى… تُنتزع بالكدّ والعطاء.
أما “دكاترة الفخرية” الذين يعيشون على فتات المجاملات، فسينقضي زمنهم كما ينقضي أي وباء، تاركين خلفهم رائحة زيفٍ لا يمحوها الزمن.
دكاترة النفاق!