×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

أخيراً أتقنت فن الزهايمر

أخيراً أتقنت فن الزهايمر
بقلم / خلود عبد الجبار 
في زمن تتسارع فيه الضغوط، وتتصادم فيه الأعصاب كما تتصادم السيارات في طريق مزدحم، اكتشفتُ أن أقسى المعارك ليست تلك التي نخوضها مع الآخرين، بل تلك التي تدور بصمت داخلنا.
كنتُ أعيش كل يوم في سباقٍ مع المسؤوليات، أمٌّ تقلق، وإعلامية تلاحق الأحداث، وإنسانة تحاول ألا تنهار. إلى أن جاء يومٌ شعرتُ فيه بأنّ جسدي أعلن التمرّد. فقدتُ الرؤية جزئياً في عيني اليسرى بعد نوبةٍ عصبيةٍ عنيفة، سببتها لحظةُ حزنٍ وغضبٍ على أحد أبنائي حين تعرض لموقف في المدرسة. وكأن تلك النوبة لم تكن سوى صرخة صامتة من داخلي تقول: “توقّفي، لقد تجاوزتِ الحد.”
خسرتُ أعصابي، ثم راحتي، ثم شيئاً من صحتي. أصبتُ بالقولون العصبي، وارتفع ضغطي وسكري، وصرتُ أعيش بين دوامة ألمٍ وهمٍّ وخوفٍ من القادم. حتى جاءني الفرج في شكل لعبةٍ غريبةٍ علّمتني إياها أمي ، حين قالت لي بابتسامتها المطمئنة:
“يا بنتي، بتقتلي نفسك بالعصبية.. العبي معايا لعبة الزهايمر.”
ضحكتُ أول الأمر، لكنني أصغيت. شرحت لي “قوانين اللعبة” ببساطةٍ عميقة:
تجاهلي ما يؤذيك كأنكِ نسيتِه، وابتسمي كأنكِ لا تتذكرين من أوجعك، وعيشي كأنكِ لا تملكين في هذه الدنيا سوى قلبٍ طاهرٍ وذكرٍ لله.
ومنذ ذلك اليوم، بدأت طقوسي الجديدة. كلما غزاني الغضب، توضأتُ أو أخذتُ حماماً بارداً. كنتُ أشعر بالماء يطفئ نيران الأعصاب كما يطفئ المطر رماد الحريق. ثم أستحضر اللعبة: أتقمّص شخصية عجوزٍ في الثمانين، مصابةٍ بالزهايمر، لا تحمل في ذاكرتها سوى الحنين إلى الله، ولا يهمها سوى حسن الخاتمة وسلام القلب.
ومن حيث لم أتوقع، بدأ كل شيء يتبدل. اعتدلت صحتي، انخفض ضغطي، تحسّنت رؤيتي، وصار قلبي أخفّ. اكتشفت أن “فن الزهايمر” ليس مرضاً، بل نعمة حين نتقنه اختياراً.
أن ننسى ما يؤلمنا ليس ضعفاً، بل بقاء. وأن نسامح دون ذاكرةٍ مثقلةٍ بالخذلان هو أرفع درجات الوعي.
هكذا أتقنتُ اللعبة… لعبة الزهايمر الجميلة.
نسيتُ ما يستحق النسيان، وتذكرتُ ما يستحق البقاء: أن الله وحده القادر على شفاء الجسد والروح معاً .
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر