×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

بين “اقرأ” الأولى وسطوة الشاشات

بين “اقرأ” الأولى وسطوة الشاشات
بقلم / عبدالعزيز الرحيل 
لم يكن أن يبدأ الوحي الإلهي بكلمة ﴿اقرأ﴾ أمرًا عابرًا، بل كان إعلانًا سماويًا بأن الكلمة أصل الوعي، وأن الحضارة تُشيَّد على الحرف قبل الحجر، وأن الإنسان لا يُصاغ كماله إلا بالمعرفة. لقد جاءت “اقرأ” الأولى مفتاحًا للنهضة، وسُلّمًا يعلو بالعقل والروح معًا، فبها يُبنى العمران، وبها تُصان الذاكرة، وبها يُخلَّد الأثر الإنساني في سجل الزمان.

ومع ذلك، فإن حاضرنا يشهد مفارقة موجعة؛ إذ هجرت جماعات من الناس دفء الكتاب وعمقه، ومالوا إلى سطوة الشاشات التي لا تمنح إلا ومضات خاطفة، ورسائل عابرة، كشررٍ يتلاشى قبل أن يُضيء. غدا الكتاب غريبًا في أوطانٍ كان سيّدها، وبات الكاتب كمن ينادي في صحراء لا صدى لها، يظن أن صوته ضاع، مع أن كلماته ما تزال محفورة في ذاكرة الأجيال، تنتظر من يوقظها من سباتها.

وقد حذّر ابن خلدون منذ قرون من أن الأمم لا تُبنى إلا بالعلم المدون، فقال: «إنما الكتابة من خواصّ الإنسان، وبها تُخلَّد الأخبار، ويُستدام العلم.»، فالكلمة المكتوبة ليست حبرًا على ورق، بل هي حياة ثانية للمعرفة، وذاكرة تحفظ مسيرة العقل البشري من الضياع. ولولاها لما وصلنا فكر الفلاسفة، ولا بقيت حكم الشعراء، ولا ظلّت آثار الأوائل منارات نهتدي بها في عصورنا المتقلبة.

وقد قال المتنبي:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

وأنشد أبو تمام:

وليس يُصْلِحُ في النّاسِ فَوْضَى إذا هُم جُهّالُهم سادَةُ

فالكتابة، كما الشعر، ليست ترفًا، بل مسؤولية ورسالة؛ هي الصدى الباقي حين يخفت كل صوت، وهي الأثر الذي يظلّ حاضرًا حين يغيب الجسد.

إن اللغة العربية، هذه العصماء التي حملت الوحي والشعر والحكمة، ليست مجرد أداة تعبير، بل وعاء فكر وكنز حضارة. والعودة إلى القراءة ليست رفاهية مثقف، بل ضرورة وجودية، أما الكتابة فهي عهد على كل صاحب قلم أن يكون شاهدًا على عصره، ومشاركًا في تشكيل وعي مجتمعه.

فلنستعد روح الفلاسفة الذين جعلوا الكلمة معراجًا للعقل، ولنحيي ميراث الشعراء الذين أودعوا في الحروف وجدان أمة، ولنُعِد للغة الضاد مكانتها في الفكر والحياة. ولنجعل من “اقرأ” التي ابتدأ بها الوحي مسيرة النور، منارةً جديدة نستضيء بها في زمن يزدحم بالضجيج ويفتقر إلى الحكمة.

ونحن نعلم أن وسائل التواصل الاجتماعي ـ رغم انتشارها الواسع ـ قد حطمت قلوب كثير من الكُتّاب المعاصرين، وأوهنت عزائمهم حين لم يجدوا من يقرأ ما يكتبون في ظل زحام الصور والمقاطع السريعة. غير أن هذه الوسائل، على قوتها وسطوتها، ليست إلا موجة وقتية، ستنحسر كما انحسر بريق أجهزة الأمس، مثل “جوال نوكيا” الذي كان يومًا أيقونة، ثم مضى ولم يبقَ له إلا الذكرى.

أما الكلمة المكتوبة، والمقالة الراسخة، والسلاح الأدبي الذي يحمل فكر الإنسان ووجدانه، فهي وحدها الباقية ما بقيت الإنسانية على وجه الأرض. الكتابة لا تهرم، ولا تخضع لزمن التقنية؛ لأنها ابنة الروح، والروح خالدة ما دام في الناس من يقرأ ويكتب ويفكر.

ولهذا، فإن واجبنا أن نحفّز أنفسنا ونحفّز بعضنا البعض على العودة للكتاب، وعلى صون القلم، وعلى استعادة ثقة الكاتب بدوره، فالأمم لا تنهض بالصور العابرة، بل بالكلمة العميقة، ولا تبقى في الذاكرة بما يُستهلك سريعًا، بل بما يُخلّد في سجلها الأدبي والفكري.

فلنكتب، ولنتأمل، ولنحمل مشعل القراءة والفكر، فهو الباقي حين يذهب كل عابر .
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر