×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

لأجل عين تُكرم مدينة

لأجل عين تُكرم مدينة
بقلم / خلود عبد الجبار 
في زوايا البيوت القديمة، حيث تختبئ الحكايات بين الجدران وتتنفس الأرواح عبق الماضي، يتوارث الناس حكمًا وأمثالًا لا تذبل مهما تقادم بها العمر. ذلك اليوم، كنت شاهدة على مشهد بسيط الملامح، لكنه يحمل في طياته معنى أكبر من أي درس قرأته في كتاب.
كانت جدتي تغلق الباب بقوة، غاضبة على ما يبدو بعد نقاش حاد مع جدي. صوت ارتطام الباب تسلل إلى قلبي كما لو أنه رجّة صغيرة، فأنا أعرف أن غضبها يشبه غضب أمي، يغلق الأبواب ويؤوي نفسه إلى صمت طويل ونوم عميق. تجاهلت وجودي تمامًا، فأدركت أن عليّ الانسحاب بهدوء من غرفتي التي كانت قد احتلتها، قبل أن تقول بنبرة حادة: “أخرجي، وأطفئي الأضواء وأغلقي الباب.” ابتسمت في داخلي، فذلك ما كنت أنوي فعله أصلًا.
حين خرجت، وجدت جدي واقفًا عند الباب، متكئًا على عكازه، وقد أنزل نظارته على وجهه، وفي عينيه بريق حنان أبدي. قال لي بهدوء: “استولت على غرفتك وأمرتك بالرحيل، أليس كذلك؟” أجبته بابتسامة: “نعم.” ردّ بابتسامة أكبر: “أنا داخل إليها لأصالحها.”
استغربت وقلت: “أليست هي من رفعت صوتها أولًا وأغلقت الباب حتى ارتجّ البيت؟” عندها أطلق جدي عبارته التي ظلت تتردد في ذهني: “يا بنيتي، لأجل عين تُكرم مدينة.”
ثم أوضح: “من أجل عين واحدة من عينيها الحانيتين التي صاحبتني أربعين عامًا، تحملتني وحملت أولادي وأحسنت تربيتهم وحفظت بيتي وأكرمتني… لأجلها، أكرم مدينة بأكملها.”
دخل إليها وأغلق الباب، وبعد دقائق خرجا معًا، يدا جدي متشابكة مع يدها، وعيناها تلمعان وكأن المطر غسل قلبها.

ذلك اليوم فهمت أن الحكمة ليست كلمات عابرة، بل مواقف تُترجمها الأفعال. وأن البيوت لا تحفظها الجدران، بل العيون التي نحبها.

ولأجل عين… تُكرم مدينة، ولو بعد مئة عام
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر