"موسى محرق.. القصيدة التي أغمضت عينيها"

ذات مساءٍ هادئ، جلس الحرف على ركبتيه، يبكي شاعرًا لم يكن يُكتب، بل كان يمشي بيننا كنصٍ نابض.
في حضرة الغياب، لم يرحل موسى محرق كما يرحل الناس؛ بل انسحب بصمت، تاركًا خلفه أثرًا لا يزول، وصوتًا لا يُنسى، ودفترًا من الضوء في أرشيف الجنوب.
حين ودّع الإعلام قمّته المثقفة، وفقدت القصيدة ظلها، وودّعنا رجلًا لم يكن مجرد متحدث رسمي باسم جامعة جازان، بل كان البيان حين يتعفّف عن الضجيج، وكان البهاء حين تتيه الكلمات.
"محرق" لم يكن موظفًا في مؤسسة، بل روحًا في جسد مؤسسة.
كان المهنة إذا تحلّت بالأخلاق، والشعر إذا تطهّر من الادّعاء، والصديق إذا تنبّت فيه الحنية على هيئة إنسان.
في هذا النص، لا نرثي، بل نُقيم صلة وفاء، نسترجع بها صوته، خطواته، شغفه، عبر شهادات رفيق دربه الشاعر عبدالرحمن عسيري، وصديقه الإعلامي حصّان الثوابي.
لنُدرك كيف يموت الجسد ويبقى صاحبه حيًّا في المفردة، وفي موقفٍ نبيل، وفي ابتسامة عابرة في ذاكرة الأصدقاء.
فحين سألنا ماذا يعني لكم موسى؟
عبدالرحمن عسيري، وقد لُفَّ صوته بالحزن، قال:
إن هذا السؤال من أصعب الأسئلة التي طرحت عليَّ في حوار.
موسى الإنسان الذي كلما قابلته كان مطرًا وقصيدةً يسكنها الحب والأمل والحياة.
علاقتي بموسى تجاوزت 23 عامًا من الابتسامة والود والشعر، كان لقائي به وأنا طالب بكلية السياحة، حين جاء لتغطية تقرير تلفزيوني عن الكلية.
وشاءت الصدفة أن أرشح من عميد الكلية آن ذاك الدكتور علي الشعبي "رحمه الله" لأمثل الطلاب وتطلعاتهم وآمالهم - لكن لم أعرف أن المذيع الذي يقف أمامي هو موسى محرق، الشاعر الذي قرأت له في بيادر العديد من القصائد، وحين ختم التقرير بذكر اسمه "موسى محرق" أتيته لأقرأ له أبياته التي أحفظها إلى الآن.
"فوق سفح الهموم أسكن وحدي..
شيدت غربتي هنالك لحدي،
تنثر الريح في الخريف طموحي..
ويعض الشتاء أغصان سعدي.."،
حينها سألني من أنت، فعرفته بنفسي وعرفَ والدي، فسألني هل تكتب الشعر مثل أبيك، قلت أكتب شيئًا يشبه الشعر، واختتمنا اللقاء في مكتبة الكلية وأنا أعرض عليه بعض قصائدي، وكم كان إنسانًا في استماعه وإنسانًا في تشجيعه، وإنسانًا في كل حالاته.
امتدت العلاقة بعد هذا اللقاء حتى آخر أيامه، فكم تحوي الذاكرة أيامًا كانت مليئةً بالحياه، فكم التقينا بشقته في "حي ذرة" وتسامرنا - حين كان في أبها- أنا وموسى وأستاذنا الدكتور أحمد التيهاني، وكم تنقلنا بين الأمسيات الشعرية ومعارض الكتب ولم يكن سوى بلسمٍ من كل جراحات اللحظة ومنعطفات العمر..فعلاقتي بموسى أعمق وأكبر من أختصرها في سؤال عابر..
حصّان الثوابي، قالها ببساطة رجلٍ خبر الوفاء:
لم أسمع يومًا أنه جرح أحدًا، لم يخذل، لم يجادل، لم يُهِن.
ذات يوم طلبت منه إعداد تقرير عن قريتنا في السودة، لم يتردّد، بل أصرّ على تضمين أصوات الكبار في المشهد، سجّل بصوته، وسافر بنا إلى آفاق أوسع، وحين شكرته، أجاب: "إذا ما خدمناك يا أبا مشعل، من نخدم؟".. هنا كان الفرق: موسى لم يكن يؤدي عملاً، بل يصنع قيمة.
ما الذي ميّزه إنسانيًا؟
عسيري قالها وهو يغالب النبض:
كان نقيًا كغيمٍ نزل بعد قحط.. إنسانًا لا تجرحه التفاصيل، يمسك الضوء من حوافه، ويسقي به من حوله.
لم أذكر يومًا أنه أدار ظهره لي، أو لغيري، كان دائمًا معنا، لا علينا.
الثوابي أضاف:
رحيم، بسيط، يظن بالناس خيرًا، ويبتعد عن الخصام كما يبتعد النور عن الضباب.
وماذا عن تفرده الأدبي؟
قال عسيري:
اختصر عبدالرحمن عسيري إجابته على هذا السؤال ببيتين للفقيد تدل على عمق شاعريته وتفردها حيث قال :
متُ حياً،، فكيف أبعثُ حيا؟؟ ..
لامسي الروحَ واقرئيها عليا
رتلي سورة الوصال أطيلي ..
في صلاة الهوى لأبقى نديا
من يكتب هذا البيتين أعلاه، يكتب تراتيلاً من الجمال، فاتحةً ندلف من خلالها نحو كُنهِ الشعر والأدب، موسى الذي يتحدث شعرًا لم تكن تجربته تقليدية مكرورة، ولم يكن منفلتًا في فضاءات الكتابة الشعرية والإبداعية.
كان حالةً كتابيةً متفردةً ومتطورةً بشكلٍ مذهل، من يقرأ بواكيره في مجلة بيادر التي كان يصدرها النادي الأدبي بأبها، سيلاحظ التطور الفني السريع في كتابة القصيدة حتى أصبح يكتب الإنسان فينا.. تجاوز مجايليه وفق ما رآه النقاد الذين درسوا شعره، موسى انطلق حتى نقش اسمه على صدر الذاكرة الشعرية في السعودية..
تأثيره الإعلامي؟
عسيري أجاب بإجلال:
قال عبدالرحمن عسيري : في محطة تلفزيون أبها كان موسى امتدادًا للغة الجميلة التي لطالما اتصف بها كثير من مذيعي هذه المحطة، فكان شغوفًا متحركًا في كل الاتجاهات، محبًا ومؤمنًا بذاته وبأهمية ما يقدمه لوطنه، وكعادته وقدرته على التطور والتميز وكنجابته الشعرية وسرعة تطوره في الكتابة، انتقل موسى في محطة تلفزيون أبها من مذيع مراسل يقدم التقارير الميدانية المسجلة إلى مذيع يقدم البرامج على الهواء مباشرة في وقت وجيز، وكذلك أيضاً في صحيفة الوطن وكذلك أيضاً في جامعة جازان حتى أصبح المشرف العام على الإدارة العامة للاتصال والإعلام بالجامعة، والمسيرة الإعلامية فيما قدمه موسى تطول.. باختصار موسى يمثل القدرة على التميز والإبداع أينما كان.
الثوابي قال:
عاصرته في بداياته، كان ناضجًا إعلاميًا، يعرف متى يتكلّم ومتى يصمت، وكان إلى جانب د. أحمد التيهاني أحد رموز الشاشة الثقافية في المنطقة.
كلمة أخيرة؟
عسيري همس بها كما لو كان يخاطب قلبه:
سأقول يا موسى الإنسان.. كنتَ إنسانًا في كل حالاتك، صادقًا مع ذاتك ومجتمعك ووطنك.. كنت جميلاً في صداقتك وشعرك وروحك، حتى في رحيلك يا صديقي أبيت إلا أن تموت وأنت على كرسيك تتأمل الحياة وتطل عليها من شرفه..
رحمك الله كم أوجعني رحيلك.
الثوابي قال:
رحلت قبل الموعد، فآلمني غيابك يا أبا زياد.
وهكذا، حين تودّع الحياة رجلاً مثل موسى محرق، لا تُطفأ الشموع.. بل توقد في قلب كل من عرفه.
رحمه الله، وجعل طيب حرفه في ميزان حسناته.
في حضرة الغياب، لم يرحل موسى محرق كما يرحل الناس؛ بل انسحب بصمت، تاركًا خلفه أثرًا لا يزول، وصوتًا لا يُنسى، ودفترًا من الضوء في أرشيف الجنوب.

حين ودّع الإعلام قمّته المثقفة، وفقدت القصيدة ظلها، وودّعنا رجلًا لم يكن مجرد متحدث رسمي باسم جامعة جازان، بل كان البيان حين يتعفّف عن الضجيج، وكان البهاء حين تتيه الكلمات.
"محرق" لم يكن موظفًا في مؤسسة، بل روحًا في جسد مؤسسة.
كان المهنة إذا تحلّت بالأخلاق، والشعر إذا تطهّر من الادّعاء، والصديق إذا تنبّت فيه الحنية على هيئة إنسان.
في هذا النص، لا نرثي، بل نُقيم صلة وفاء، نسترجع بها صوته، خطواته، شغفه، عبر شهادات رفيق دربه الشاعر عبدالرحمن عسيري، وصديقه الإعلامي حصّان الثوابي.
لنُدرك كيف يموت الجسد ويبقى صاحبه حيًّا في المفردة، وفي موقفٍ نبيل، وفي ابتسامة عابرة في ذاكرة الأصدقاء.
فحين سألنا ماذا يعني لكم موسى؟
عبدالرحمن عسيري، وقد لُفَّ صوته بالحزن، قال:
إن هذا السؤال من أصعب الأسئلة التي طرحت عليَّ في حوار.
موسى الإنسان الذي كلما قابلته كان مطرًا وقصيدةً يسكنها الحب والأمل والحياة.
علاقتي بموسى تجاوزت 23 عامًا من الابتسامة والود والشعر، كان لقائي به وأنا طالب بكلية السياحة، حين جاء لتغطية تقرير تلفزيوني عن الكلية.
وشاءت الصدفة أن أرشح من عميد الكلية آن ذاك الدكتور علي الشعبي "رحمه الله" لأمثل الطلاب وتطلعاتهم وآمالهم - لكن لم أعرف أن المذيع الذي يقف أمامي هو موسى محرق، الشاعر الذي قرأت له في بيادر العديد من القصائد، وحين ختم التقرير بذكر اسمه "موسى محرق" أتيته لأقرأ له أبياته التي أحفظها إلى الآن.

"فوق سفح الهموم أسكن وحدي..
شيدت غربتي هنالك لحدي،
تنثر الريح في الخريف طموحي..
ويعض الشتاء أغصان سعدي.."،
حينها سألني من أنت، فعرفته بنفسي وعرفَ والدي، فسألني هل تكتب الشعر مثل أبيك، قلت أكتب شيئًا يشبه الشعر، واختتمنا اللقاء في مكتبة الكلية وأنا أعرض عليه بعض قصائدي، وكم كان إنسانًا في استماعه وإنسانًا في تشجيعه، وإنسانًا في كل حالاته.
امتدت العلاقة بعد هذا اللقاء حتى آخر أيامه، فكم تحوي الذاكرة أيامًا كانت مليئةً بالحياه، فكم التقينا بشقته في "حي ذرة" وتسامرنا - حين كان في أبها- أنا وموسى وأستاذنا الدكتور أحمد التيهاني، وكم تنقلنا بين الأمسيات الشعرية ومعارض الكتب ولم يكن سوى بلسمٍ من كل جراحات اللحظة ومنعطفات العمر..فعلاقتي بموسى أعمق وأكبر من أختصرها في سؤال عابر..


حصّان الثوابي، قالها ببساطة رجلٍ خبر الوفاء:
لم أسمع يومًا أنه جرح أحدًا، لم يخذل، لم يجادل، لم يُهِن.
ذات يوم طلبت منه إعداد تقرير عن قريتنا في السودة، لم يتردّد، بل أصرّ على تضمين أصوات الكبار في المشهد، سجّل بصوته، وسافر بنا إلى آفاق أوسع، وحين شكرته، أجاب: "إذا ما خدمناك يا أبا مشعل، من نخدم؟".. هنا كان الفرق: موسى لم يكن يؤدي عملاً، بل يصنع قيمة.
ما الذي ميّزه إنسانيًا؟
عسيري قالها وهو يغالب النبض:
كان نقيًا كغيمٍ نزل بعد قحط.. إنسانًا لا تجرحه التفاصيل، يمسك الضوء من حوافه، ويسقي به من حوله.
لم أذكر يومًا أنه أدار ظهره لي، أو لغيري، كان دائمًا معنا، لا علينا.
الثوابي أضاف:
رحيم، بسيط، يظن بالناس خيرًا، ويبتعد عن الخصام كما يبتعد النور عن الضباب.
وماذا عن تفرده الأدبي؟
قال عسيري:
اختصر عبدالرحمن عسيري إجابته على هذا السؤال ببيتين للفقيد تدل على عمق شاعريته وتفردها حيث قال :
متُ حياً،، فكيف أبعثُ حيا؟؟ ..
لامسي الروحَ واقرئيها عليا
رتلي سورة الوصال أطيلي ..
في صلاة الهوى لأبقى نديا
من يكتب هذا البيتين أعلاه، يكتب تراتيلاً من الجمال، فاتحةً ندلف من خلالها نحو كُنهِ الشعر والأدب، موسى الذي يتحدث شعرًا لم تكن تجربته تقليدية مكرورة، ولم يكن منفلتًا في فضاءات الكتابة الشعرية والإبداعية.
كان حالةً كتابيةً متفردةً ومتطورةً بشكلٍ مذهل، من يقرأ بواكيره في مجلة بيادر التي كان يصدرها النادي الأدبي بأبها، سيلاحظ التطور الفني السريع في كتابة القصيدة حتى أصبح يكتب الإنسان فينا.. تجاوز مجايليه وفق ما رآه النقاد الذين درسوا شعره، موسى انطلق حتى نقش اسمه على صدر الذاكرة الشعرية في السعودية..
تأثيره الإعلامي؟
عسيري أجاب بإجلال:
قال عبدالرحمن عسيري : في محطة تلفزيون أبها كان موسى امتدادًا للغة الجميلة التي لطالما اتصف بها كثير من مذيعي هذه المحطة، فكان شغوفًا متحركًا في كل الاتجاهات، محبًا ومؤمنًا بذاته وبأهمية ما يقدمه لوطنه، وكعادته وقدرته على التطور والتميز وكنجابته الشعرية وسرعة تطوره في الكتابة، انتقل موسى في محطة تلفزيون أبها من مذيع مراسل يقدم التقارير الميدانية المسجلة إلى مذيع يقدم البرامج على الهواء مباشرة في وقت وجيز، وكذلك أيضاً في صحيفة الوطن وكذلك أيضاً في جامعة جازان حتى أصبح المشرف العام على الإدارة العامة للاتصال والإعلام بالجامعة، والمسيرة الإعلامية فيما قدمه موسى تطول.. باختصار موسى يمثل القدرة على التميز والإبداع أينما كان.
الثوابي قال:
عاصرته في بداياته، كان ناضجًا إعلاميًا، يعرف متى يتكلّم ومتى يصمت، وكان إلى جانب د. أحمد التيهاني أحد رموز الشاشة الثقافية في المنطقة.
كلمة أخيرة؟
عسيري همس بها كما لو كان يخاطب قلبه:
سأقول يا موسى الإنسان.. كنتَ إنسانًا في كل حالاتك، صادقًا مع ذاتك ومجتمعك ووطنك.. كنت جميلاً في صداقتك وشعرك وروحك، حتى في رحيلك يا صديقي أبيت إلا أن تموت وأنت على كرسيك تتأمل الحياة وتطل عليها من شرفه..
رحمك الله كم أوجعني رحيلك.
الثوابي قال:
رحلت قبل الموعد، فآلمني غيابك يا أبا زياد.
وهكذا، حين تودّع الحياة رجلاً مثل موسى محرق، لا تُطفأ الشموع.. بل توقد في قلب كل من عرفه.
رحمه الله، وجعل طيب حرفه في ميزان حسناته.