×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

من كل فج عميق

بقلم الكاتب: سيّار عبدالله الشمري 
الحج قديماً وحديثاً: ومبادرة طريق مكة
مع مرور القرون، شهدت رحلة الحج تطوراً هائلاً، انتقلت من مشاق السفر وصعوباته إلى عصر التيسير والتنظيم والابتكار، ليصبح الحج اليوم تجربة روحانية تسندها أحدث وسائل التقنية والإدارة، وكان من أبرز معالم هذا التحول مبادرة طريق مكة. أعلنت الهيئة العامة السعودية للإحصاء، أن إجمالى أعداد الحجاج لهذا العام 1446هـ بلغ أكثر من مليون ونصف المليون من حجاج الداخل والخارج استفادوا من هذه الخدمات المتطورة والمقدمة لضيوف الرحمن.

الحج في الماضي: مشقة الطريق وصعوبة السفر

لم يكن الحج في الزمن الماضي مجرد أداء لفريضة، بل كان رحلة شاقة تختبر الصبر والعزيمة. كان الحجاج يقطعون المسافات على ظهور الإبل أو سيراً على الأقدام، ويقضون الشهور في الطريق. تتعرض القوافل للمخاطر من وعورة التضاريس، وتقلبات الطقس، والأمراض، وحتى قطاع الطرق. وكان الاعتماد الأكبر على التوكل، والدعاء، والتعاون بين الحجاج انفسهم.

الحج في الحاضر: التنظيم والتقنية في خدمة الضيوف

في عهد الدولة السعودية الحديثة، وبخاصة في ظل رؤية المملكة 2030، تحول الحج إلى تجربة منظمة تنعم بالأمن والأمان والراحة. استثمرت المملكة في البنية التحتية، ووسائل النقل، والإدارة الذكية للحشود، والخدمات الطبية، والرقابة البيئية، لضمان أداء المناسك في سهولة ويسر. أصبح من المعتاد أن يصل الحاج إلى مكة في غضون ساعات بعد إجراءات ميسرة، وتطبيقات إلكترونية ترشد الحاج خطوة بخطوة، وخدمات توعوية وترجمية في مختلف اللغات. وبدلاً من شهور من التعب، أصبحت فريضة الحج متاحة وميسرة لكل من تاقت روحه اليها.

مبادرة طريق مكة: من المطار إلى المشاعر

في هذا السياق المتطور، جاءت مبادرة طريق مكة لتكون واحدة من أنجح المبادرات الإنسانية والتنظيمية التي تعكس وجه المملكة المشرق في خدمة ضيوف الرحمن. أُطلقت هذه المبادرة ضمن برامج رؤية 2030، وتُنفذها وزارة الداخلية بالتعاون مع عدد من الجهات الحكومية.

تُعنى المبادرة بإنهاء إجراءات الحجاج من بلدانهم، بدءاً من إصدار التأشيرة، مروراً بالجمارك والجوازات، ووصولاً إلى شحن الأمتعة مباشرة إلى مقار سكن الحجاج في مكة أو المدينة. وعند وصولهم إلى أرض المملكة، يدخل الحجاج كما لو كانوا قادمين من رحلة داخلية، دون عناء الانتظار أو التعرض للازدحام.

طبقت المبادرة في عدد من الدول الإسلامية ولا تزال تتوسع لتشمل المزيد من الدول، بما يعكس البُعد العالمي لهذا المشروع المبارك، ويجسد المعنى العميق لقوله تعالى: "من كل فج عميق"، ليس فقط في المسافات الجغرافية، بل في نوعية الخدمة والتكريم الذي يلقاه الحاج من لحظة انطلاقه وحتى عودته.

خاتمة: خدمة الحاج شرف وعبادة

لقد تحول الحج من معاناة الطريق إلى كرامة الوصول، ومن مخاطر السفر إلى أجواء الأمن والأمان والطمأنينة، وكل ذلك بفضل رعاية المملكة لضيوف الرحمن. وإن مبادرة طريق مكة ليست مجرد إجراء تنظيمي، بل هي رسالة حضارية وإنسانية تؤكد أن المملكة لا تقدم الخدمات فحسب، بل تصوغ نموذجاً عالمياً في رعاية الشعائر وتعظيم المشاعر.

وهكذا، يظل الحج شاهداً على عراقة الماضي، وحكمة الحاضر، واستشراف المستقبل. فمن كل فج عميق، يأتون شاكرين، ويعودون مغفوراً لهم بإذن الله، يحملون في قلوبهم امتناناً لا يُنسى لبلاد الحرمين، التي كانت ولا تزال خير معين في طريقهم إلى الله.
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر