×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

الترابط الأسري في زمن التفكك الرقمي

بقلم / خلود عبد الجبار 
لم تعد الأسرة في زمننا المعاصر تواجه التحديات التقليدية التي عرفتها الأجيال السابقة فحسب، بل وجدت نفسها اليوم أمام اختبارات يومية غير مرئية، تُفرض عليها بفعل التحولات المتسارعة التي يشهدها المجتمع، وفي مقدمتها ثورة وسائل التواصل الاجتماعي. باتت هذه الوسائل، على الرغم مما تقدمه من فرص للتواصل والانفتاح، سيفًا ذا حدين حين يتعلق الأمر بالترابط الأسري، إذ تسللت إلى نسيج الحياة اليومية لتعيد تشكيل أنماط العلاقات داخل البيت الواحد، وغالبًا بشكل غير متوازن.

في الماضي، كانت جلسات العائلة حول مائدة الطعام أو في المجالس العائلية تصنع الألفة والود وتعزز قيم الحوار، أما اليوم فكثير من تلك اللحظات ضاعت بين أصابع ممسكة بالهواتف، تتابع أخبار العالم لكنها تغفل عن وجوه الأحبة القريبة. لقد أصبح المشهد مألوفًا؛ أبناء في ركن، آباء في ركن آخر، وكل فرد غارق في عالَمٍ افتراضي يبعده عن دفء العلاقة الحقيقية.

هذا الحضور الطاغي للتقنية ولّد نوعًا من “السطحية العاطفية”، حيث يكتفي البعض بالتعبير عن مشاعره عبر رموز وصور على الشاشات، بدلًا من الحوار المباشر والتفاعل الحقيقي. والأخطر من ذلك، أن المقارنات المتكررة بما يُعرض على المنصات تخلق شعورًا بالنقص أو الإحباط داخل الأسرة، حين يظن أفرادها أن ما يعيشه الآخرون من رفاه وسعادة هو القاعدة، بينما واقعهم أقل بريقًا.

لكن التحديات لا تقتصر على التكنولوجيا فحسب، بل تشمل أيضًا ضغوط الحياة العصرية؛ ساعات العمل الطويلة، الالتزامات المتعددة، واختلاف أولويات الأفراد داخل الأسرة، كل ذلك يخلق فجوات زمنية ونفسية تحول دون بناء روابط متينة. وفي ظل هذه الضغوط، قد يضعف الحوار العائلي، وتبهت معاني الدعم والتعاطف المتبادل.

رغم قتامة هذا المشهد، إلا أن الوصول إلى التوازن ليس أمرًا مستحيلاً. بل يمكن تحقيقه بذكاء اجتماعي ووعي جمعي داخل الأسرة. البداية تكون من الاعتراف بالمشكلة وعدم الاستسلام لها كأمر واقع. على الآباء أن يبادروا بوضع قواعد واضحة وصحية لاستخدام الأجهزة الذكية داخل المنزل، كأن تُخصص أوقات خالية من الهواتف، كوجبات الطعام أو الأمسيات العائلية.

كذلك من المهم استعادة قيمة “الوقت المشترك”، عبر أنشطة تُمارس جماعيًا وتُعيد للعائلة متعة العمل والتعلم معًا، كالمشاركة في الرحلات، أو الفعاليات الثقافية، أو حتى الأعمال المنزلية التي قد تبدو بسيطة لكنها تصنع ذكريات دافئة.

في موازاة ذلك، لا بد من إحياء ثقافة الحوار الصادق بين أفراد الأسرة، بحيث يجد الأبناء مساحة آمنة للتعبير عن مشاعرهم وتحدياتهم، دون خوف من اللوم أو الرفض. التواصل المفتوح يزرع الثقة ويقوي الانتماء، ويجعل من العائلة حاضنة عاطفية حقيقية وليست مجرد إطار اجتماعي شكلي.

أما على مستوى التفكير الجمعي، فعلى الجميع أن يدرك أن ما يُعرض على الشاشات ليس بالضرورة صورة دقيقة عن الحياة، وأن قيم الأسرة، بما فيها من حب وصدق وصبر، تظل أثمن من أي صورة مثالية مزيفة. إن محاربة التفكك الأسري اليوم تتطلب وعيًا نقديًا تجاه ما نستهلكه من محتوى، وشجاعة للعودة إلى البساطة، حيث المعنى الحقيقي للعلاقات.

الأسرة في النهاية ليست كيانًا جامدًا بل كائن حي، يحتاج إلى رعاية مستمرة وتوازن ذكي بين مقتضيات العصر وضرورات القرب الإنساني. وفي زمن يغري بالانعزال خلف الشاشات، يبقى الأجمل أن تظل قلوبنا متصلة… لا بكابل الإنترنت، بل بخيط الحب والاهتمام الحقيقي
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر