×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

"درس على طريق حفر الباطن"

"درس على طريق حفر الباطن"
بقلم: علي عبيد الشمري 
في صباحِ الخميس تنفّس بحرارةِ الصيف ولهيبِ التعب، شددتُ الرحال من الدمام إلى حفر الباطن، أحمل في قلبي واجبَ عزاءٍ لأقاربنا هناك، وفي جسدي إرهاقَ أسبوعين من العمل المتواصل، ونومًا متقطعًا لا يكفي لتثبيت الوعي، ولا حتى لتقوية التركيز.

مررتُ بورشةِ السيارات، وكأنني أُجهّز مركبتي للسفر، دون أن أنتبه أنني أُهمل راكبَها الأهم: نفسي. بعدها مررتُ بفود ترك صغير، طلبتُ قهوة “دانكن”، نظرتُ إلى الكوب وقلت:
“مجرد ساعات… أتحمّل.”

الطريق امتدّ أمامي صامتًا، إلى أن وصلتُ مفرق النعيرية. الشمسُ فوق رأسي تصرخ، والحرارةُ تلامس الـ48. فجأةً، بدأت السيارة تنحرف، ولا أدري كيف، ولا متى… وجدتُ نفسي أمشي على التراب، بين شارعين، والدوخةُ تخنق رأسي.

صوتٌ في داخلي بدأ يتلاشى، نظري يضعف، والجهدُ يتسرّب من أطرافي. ضغطتُ المكابح، أوقفتُ السيارة، فضّيتُ القير، وأسندتُ ظهري إلى المقعد… ثم سقطتُ في غيبوبةٍ قصيرة، لا وعيَ فيها، إلا لأصواتِ السيارات، كأنها تمرّ على أنفاسي.

ثم… طرَق الزجاجَ رجلٌ كبير في السن، وجهُه هادئ، وصوتُه أهدأ:
“يا ولدي، أنت بخير؟ طيّب؟”
همستُ: “أسمعك…”
قال بابتسامةٍ مطمئنة: “استرح… الحين يجي الهلال الأحمر.”

وفعلاً، وصلت سياراتُ الإسعاف وأمنُ الطرق. سقوني ماءً، غسلتُ وجهي، واستعدتُ شيئًا منّي.
اقترب أحدُ رجالِ الأمن، وقال بهدوء:
“اشرب، وامشِ على مهلك… أنا وراك، لين أطمئن عليك.”

رافقني إلى أول محطة. دخلتُ، وأخذتُ عصيرًا وبعضَ الطعامِ الخفيف. لحظاتٌ بسيطة… لكنها أعادت الحياة إلى دمي. ثم دخلتُ المسجد، صليتُ الظهر والعصر قصرًا، وجلستُ طويلًا أتأمل صمتي، وكأنني أُعيد بناء نفسي من جديد.

ثم عدتُ إلى الطريق.

حين وصلت، كان وجهُ التعب يسبقني إلى أهلي. جلسنا، وحكيتُ القصة بهدوء، فالحمد لله كان حاضرًا في كل لحظة.

وعند العشاء، جلس أبي بقربي، قرّب إليّ اللحم، قطّعه بيده، وقال:
“كُل، وارتَح.”

ما قاله والدي كان أعمق من طعام… كانت دعوةً للطمأنينة.

وبعد العشاء، نمتُ… نومًا عميقًا، صادقًا، كأنني أغلقتُ عيني على نجاة.

وفي الصباح، فتحتُ عيني، وودّعتُهم… وعدتُ إلى الدمام.
لكنني عدتُ بشيءٍ أكبر من السلامة… عدتُ بحكمة.

✦ ومضـــة ✦

النيةُ الطيبة لا تُغني عن رحمة النفس،
والجسد، وإن صمت، يصرخ حين تُثقله فوق طاقته.
الطريق ليس مجردَ مسافة… بل اختبار:
بين واجبٍ تُثقله، ونعمةٍ تُضيّعها إن لم تتروَّ.
كن رحيمًا بنفسك، فإن الله لا يُكلّف نفسًا إلا وُسعها.
التعليقات 0
التعليقات 0
أكثر