" جذور تتكلم "

بقلم / عبدالعزيز الرحيل
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾
(سورة إبراهيم، الآية 9
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ (الفجر: 9)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
«لما مرّ النبي ﷺ بالحِجر (ديار ثمود)، قال لأصحابه: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم»
– رواه البخاري (3380) ومسلم (2980
تثبت المملكة العربية السعودية يومًا بعد يوم أنها ليست مجرد دولة حديثة النشأة، بل وطن ضارب في عمق التاريخ، أرضٌ تعاقبت عليها الحضارات الكبرى واحتضنت الإنسان منذ فجر الإنسانية. فبين تضاريسها الجغرافية تكمن شواهد حضارية تعود لآلاف السنين، من "حضارة المقر" التي تُعد من أقدم الحضارات المعروفة في شبه الجزيرة، إلى حضارة "الفاو وثمود ولحيان والأنباط"، وصولًا إلى النور الذي شعّ من مكة المكرمة مع بزوغ "فجر الإسلام". إن كل حجر، وكل نقش، وكل طريق قافلة قديم، له دلالة على أن هذه الأرض كانت موطنًا "للفكر والتجارة والعمارة والدين" . وقد بدأت هيئة التراث السعودية في العقود الأخيرة بكشف هذا التاريخ بدقة علمية وعناية فائقة، بينما تعمل هيئة السياحة على تحويل هذه المواقع إلى محاور جذب عالمي تليق بمكانة المملكة الجديدة، فالسعودية اليوم لا تعيد فقط اكتشاف تاريخها، بل تبني عليه مستقبلها.
والمملكة العربية السعودية لا تملك فقط إرثًا حضاريًا عظيمًا، بل تتمتع أيضًا بموقع جغرافي استثنائي، إذ تقع في قلب العالم القديم، وتتوسّط ثلاث قارات هي آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، مما جعلها عبر التاريخ نقطة التقاء للقوافل التجارية، ومحورًا استراتيجيًا للحضارات، ومعبراً للديانات والثقافات. هذا الموقع لم يمنحها فقط ميزة جغرافية، بل لعب دورًا أساسيًا في نشوء وتطور تلك الحضارات التي نشأت على أرضها، وجعلها صلة وصل بين الشرق والغرب، وبين الحضارة الإنسانية القديمة والعصر الحديث
ولا يفوتنا بالذكر بأن هنالك مؤدلجين يروجون لبعض الأفكار عن وجود حضارة يهودية عميقة في جزيرة العرب، إلا أن الوقائع التاريخية والأثرية لا تدعم هذا الادعاء. فاليهود الذين سكنوا مناطق مثل يثرب وخيبر وتيماء، لم يكونوا أصحاب حضارة متجذرة، بل كانوا جماعات مهاجرة أو من العرب الذين تهودوا في حقب متفرقة، وغالبًا ما جاؤوا بحثًا عن التجارة أو الأمن، لا لنقل حضارة أو تأسيس دولة.
تقارير هيئة التراث السعودية لم تسجل أي دلائل أثرية على وجود معابد، مدن كبرى، أو نقوش عبرية واسعة لليهود في الجزيرة، خلافًا لما نجده لدى حضارات عربية عريقة مثل الأنباط، السبئيين، ثمود، وعاد. مما يعزز أن الوجود اليهودي في جزيرة العرب كان سكنيًا وتجاريًا محدودًا، وليس حضاريًا أو ثقافيًا متجذرًا.
رغم محاولات بعض الباحثين الغربيين أو المتأثرين بأجندات فكرية لإثبات روابط تاريخية لليهود مع حضارات المنطقة، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل، ولم تظهر أي دلائل حضارية فعلية تعزز مثل هذا الزعم
ولأن التاريخ ليس مجرد سرد أحداث، بل هو مرآة للهوية، فقد ولّد هذا الاكتشاف الواسع شعورًا جديدًا لدى المواطن السعودي: شعور بالانتماء العميق، وبأن جذورنا ضاربة في الأرض، تتجاوز الثروة النفطية، وترتبط بثقافة الإنسان الأول، وصعود الدولة الإسلامية، إلى الدولة الحديثة. ولعل أعظم ما يميز أرض الجزيرة هو أنها شهدت بداية الإسلام، الذي لم يكن ثورة عابرة، بل حضارة ممتدة ارتكزت على التوحيد والعلم والأخلاق. كما قال الله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس”، فالأمة التي وُلدت في هذه الأرض لم تكن لأهلها فقط، بل حملت الرسالة للعالم أجمع، ولا تزال آثارها اليوم حيّة في القيم التي تبني عليها المملكة رؤيتها الجديدة. وجاء في الحديث الشريف: “إنها لا يدخلها الطاعون ولا الدجال”، في إشارة إلى خصوصية هذه الأرض وبركتها وحفظها.
وقد عبّر صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز – مؤسس ورئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني سابقًا – عن أهمية التراث والحضارة في حياة الشعوب بقوله:
“نحن لا نبحث عن تاريخنا… نحن نقف عليه، وهو حاضر فينا، نراه في وجوه أهلنا، ونشعر به في قلوبنا، والمواطن السعودي حين يلمس آثار حضارته، فإنه يدرك أنه ليس طارئًا على هذه الأرض، بل هو ابن أمة عظيمة الجذور، عميقة الأثر في التاريخ.”
وفي المقابل، وخلال إحدى جلسات منتدى ميونيخ للأمن عام 2018، قال وزير الخارجية السعودي السابق عادل الجبير، ردًا على طرح استشراقي حول “حداثة الدولة”:
“منطقة شبه الجزيرة العربية شهدت حضارات عمرها آلاف السنين… نحن لم نُخلق من فراغ. جذورنا أعمق من أن تُختصر بتاريخ حديث، وهذه الأرض التي تتحدثون عنها، هي التي أنارت العالم برسالة الإسلام، ومنها انطلقت أعظم حضارة إنسانية أخلاقية وعلمية.”
كلا الخطابين لم يكونا مجرد كلمات عابرة، بل رؤيتان متوازيتان تؤكدان أن المملكة اليوم لا تستحضر تاريخها كماضٍ منقطع، بل كامتداد حي يشكّل حاضرها ويصوغ مستقبلها
في هذا السياق، تبرز أهمية النظرة الفلسفية للحضارة، فالحضارات لا تُقاس بعدد الأبراج أو حجم الاقتصاد فقط، بل بما تحفظه الشعوب من ذاكرتها، وما تُقدّمه للعالم من معرفة وجمال وإنسانية. حين تحترم الأمم جذورها وتُفعّلها في حركتها التنموية، فإنها تضمن بقاءها واستقرارها، وهذا ما تفعله السعودية اليوم حين تجعل من تراثها الوطني جزءًا من مشروعها الحديث. لا عجب إذًا أن تصبح مدن مثل العلا والدرعية والفاو ليست فقط مواقع تاريخية، بل روافد اقتصادية وسياحية وثقافية تفتح فرص عمل، وتستقطب المستثمرين، وتضيف للناتج المحلي قيمة تتجاوز الأرقام. إننا نعيش لحظة فريدة يعاد فيها تشكيل مفهوم “السعودية” على المستوى الدولي، لا بوصفها دولة غنية فقط، بل كأمة ذات تاريخ حي، وشعب واعٍ، وثقافة حية في الحاضر.
السعودية اليوم تُحفر من جديد، ليس بمعاول الباحثين فقط، بل بعقول المفكرين، وعيون الزائرين، ورغبة الدولة في أن تكون هذه الأرض المباركة مركز إشعاع حضاري وإنساني. فكل خطوة نحو المستقبل يجب أن تمر على الجذور، والسعودية تعرف جيدًا من أين أتت….! وإلى أين تتجه……! لذلك ستبقى كما هي: “أرض الحضارات.”
(سورة إبراهيم، الآية 9
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ (الفجر: 9)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
«لما مرّ النبي ﷺ بالحِجر (ديار ثمود)، قال لأصحابه: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم»
– رواه البخاري (3380) ومسلم (2980
تثبت المملكة العربية السعودية يومًا بعد يوم أنها ليست مجرد دولة حديثة النشأة، بل وطن ضارب في عمق التاريخ، أرضٌ تعاقبت عليها الحضارات الكبرى واحتضنت الإنسان منذ فجر الإنسانية. فبين تضاريسها الجغرافية تكمن شواهد حضارية تعود لآلاف السنين، من "حضارة المقر" التي تُعد من أقدم الحضارات المعروفة في شبه الجزيرة، إلى حضارة "الفاو وثمود ولحيان والأنباط"، وصولًا إلى النور الذي شعّ من مكة المكرمة مع بزوغ "فجر الإسلام". إن كل حجر، وكل نقش، وكل طريق قافلة قديم، له دلالة على أن هذه الأرض كانت موطنًا "للفكر والتجارة والعمارة والدين" . وقد بدأت هيئة التراث السعودية في العقود الأخيرة بكشف هذا التاريخ بدقة علمية وعناية فائقة، بينما تعمل هيئة السياحة على تحويل هذه المواقع إلى محاور جذب عالمي تليق بمكانة المملكة الجديدة، فالسعودية اليوم لا تعيد فقط اكتشاف تاريخها، بل تبني عليه مستقبلها.
والمملكة العربية السعودية لا تملك فقط إرثًا حضاريًا عظيمًا، بل تتمتع أيضًا بموقع جغرافي استثنائي، إذ تقع في قلب العالم القديم، وتتوسّط ثلاث قارات هي آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، مما جعلها عبر التاريخ نقطة التقاء للقوافل التجارية، ومحورًا استراتيجيًا للحضارات، ومعبراً للديانات والثقافات. هذا الموقع لم يمنحها فقط ميزة جغرافية، بل لعب دورًا أساسيًا في نشوء وتطور تلك الحضارات التي نشأت على أرضها، وجعلها صلة وصل بين الشرق والغرب، وبين الحضارة الإنسانية القديمة والعصر الحديث
ولا يفوتنا بالذكر بأن هنالك مؤدلجين يروجون لبعض الأفكار عن وجود حضارة يهودية عميقة في جزيرة العرب، إلا أن الوقائع التاريخية والأثرية لا تدعم هذا الادعاء. فاليهود الذين سكنوا مناطق مثل يثرب وخيبر وتيماء، لم يكونوا أصحاب حضارة متجذرة، بل كانوا جماعات مهاجرة أو من العرب الذين تهودوا في حقب متفرقة، وغالبًا ما جاؤوا بحثًا عن التجارة أو الأمن، لا لنقل حضارة أو تأسيس دولة.
تقارير هيئة التراث السعودية لم تسجل أي دلائل أثرية على وجود معابد، مدن كبرى، أو نقوش عبرية واسعة لليهود في الجزيرة، خلافًا لما نجده لدى حضارات عربية عريقة مثل الأنباط، السبئيين، ثمود، وعاد. مما يعزز أن الوجود اليهودي في جزيرة العرب كان سكنيًا وتجاريًا محدودًا، وليس حضاريًا أو ثقافيًا متجذرًا.
رغم محاولات بعض الباحثين الغربيين أو المتأثرين بأجندات فكرية لإثبات روابط تاريخية لليهود مع حضارات المنطقة، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل، ولم تظهر أي دلائل حضارية فعلية تعزز مثل هذا الزعم
ولأن التاريخ ليس مجرد سرد أحداث، بل هو مرآة للهوية، فقد ولّد هذا الاكتشاف الواسع شعورًا جديدًا لدى المواطن السعودي: شعور بالانتماء العميق، وبأن جذورنا ضاربة في الأرض، تتجاوز الثروة النفطية، وترتبط بثقافة الإنسان الأول، وصعود الدولة الإسلامية، إلى الدولة الحديثة. ولعل أعظم ما يميز أرض الجزيرة هو أنها شهدت بداية الإسلام، الذي لم يكن ثورة عابرة، بل حضارة ممتدة ارتكزت على التوحيد والعلم والأخلاق. كما قال الله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس”، فالأمة التي وُلدت في هذه الأرض لم تكن لأهلها فقط، بل حملت الرسالة للعالم أجمع، ولا تزال آثارها اليوم حيّة في القيم التي تبني عليها المملكة رؤيتها الجديدة. وجاء في الحديث الشريف: “إنها لا يدخلها الطاعون ولا الدجال”، في إشارة إلى خصوصية هذه الأرض وبركتها وحفظها.
وقد عبّر صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز – مؤسس ورئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني سابقًا – عن أهمية التراث والحضارة في حياة الشعوب بقوله:
“نحن لا نبحث عن تاريخنا… نحن نقف عليه، وهو حاضر فينا، نراه في وجوه أهلنا، ونشعر به في قلوبنا، والمواطن السعودي حين يلمس آثار حضارته، فإنه يدرك أنه ليس طارئًا على هذه الأرض، بل هو ابن أمة عظيمة الجذور، عميقة الأثر في التاريخ.”
وفي المقابل، وخلال إحدى جلسات منتدى ميونيخ للأمن عام 2018، قال وزير الخارجية السعودي السابق عادل الجبير، ردًا على طرح استشراقي حول “حداثة الدولة”:
“منطقة شبه الجزيرة العربية شهدت حضارات عمرها آلاف السنين… نحن لم نُخلق من فراغ. جذورنا أعمق من أن تُختصر بتاريخ حديث، وهذه الأرض التي تتحدثون عنها، هي التي أنارت العالم برسالة الإسلام، ومنها انطلقت أعظم حضارة إنسانية أخلاقية وعلمية.”
كلا الخطابين لم يكونا مجرد كلمات عابرة، بل رؤيتان متوازيتان تؤكدان أن المملكة اليوم لا تستحضر تاريخها كماضٍ منقطع، بل كامتداد حي يشكّل حاضرها ويصوغ مستقبلها
في هذا السياق، تبرز أهمية النظرة الفلسفية للحضارة، فالحضارات لا تُقاس بعدد الأبراج أو حجم الاقتصاد فقط، بل بما تحفظه الشعوب من ذاكرتها، وما تُقدّمه للعالم من معرفة وجمال وإنسانية. حين تحترم الأمم جذورها وتُفعّلها في حركتها التنموية، فإنها تضمن بقاءها واستقرارها، وهذا ما تفعله السعودية اليوم حين تجعل من تراثها الوطني جزءًا من مشروعها الحديث. لا عجب إذًا أن تصبح مدن مثل العلا والدرعية والفاو ليست فقط مواقع تاريخية، بل روافد اقتصادية وسياحية وثقافية تفتح فرص عمل، وتستقطب المستثمرين، وتضيف للناتج المحلي قيمة تتجاوز الأرقام. إننا نعيش لحظة فريدة يعاد فيها تشكيل مفهوم “السعودية” على المستوى الدولي، لا بوصفها دولة غنية فقط، بل كأمة ذات تاريخ حي، وشعب واعٍ، وثقافة حية في الحاضر.
السعودية اليوم تُحفر من جديد، ليس بمعاول الباحثين فقط، بل بعقول المفكرين، وعيون الزائرين، ورغبة الدولة في أن تكون هذه الأرض المباركة مركز إشعاع حضاري وإنساني. فكل خطوة نحو المستقبل يجب أن تمر على الجذور، والسعودية تعرف جيدًا من أين أتت….! وإلى أين تتجه……! لذلك ستبقى كما هي: “أرض الحضارات.”